اللسانيات الديكارتية (ل.د)، كتاب أساسي لمن يريد أن يعرف الأصول العقلانية التي ينبني عليها النحو التوليدي، عند تشومسكي على وجه الخصوص. وهي أصول تعود إلى تقاليد فلسفية-علمية ونفسية تشكلت بوضوح عند ديكارت وعند أفلاطونيي كَمْبريدج بإنكلترا وعند الرومانسيين الألمان، خصوصا همبولت وويليام شليغل. وقد أطَّرت هذه العقلانيةُ مقاربةَ تشومسكي للغة ولعلم الذهن وللسياسة منذ ستينيات القرن العشرين إلى حد الآن، كما أنها تعترف « بمركزية حرية الفكر والعمل في الحياة اليومية » وبقدرة الذهن البشري على الإبداع اللامتناهي، ولذلك ينعتها البعض بالعقلانية الرومانسية.
تتجلى أهمية كتاب ل.د في أنه يُبيِّن خطأ الفكرة الشائعة القائمة على أن اللسانيات الحديثة لم تنشأ إلا في بداية القرن العشرين، بل يذهب بعيدا في وصفها بأنها شَكَّلت تراجُعا كبيرا عن لسانيات القرن السابع عشر التي استمرت إلى غاية القرن التاسع عشر. حَدَث هذا التراجُع على مستوى الوصف اللغوي وعلى مستوى التفسير الذي قُدِّم لمشكل اكتسابِ اللغة والإبداعِ اللغوي في إطار الإشكالات الفلسفية والنفسية والعلمية لما يسميه شومسكي في أعمال أخرى بالثورة المعرفية الأولى. وفي هذا الخصوص، يُعدُّ الكتاب ذا قيمة كبرى للمهتم بتاريخ الأفكار.
وتتمثل القيمة المعاصرة للكتاب في أنه أعاد وضع دراسة اللغة في قلب الثورة المعرفية الثانية الحديثة، من خلال جعلِ اللسانيات جزءا من علم النفس المعرفي، والقطعِ مع النَّظَر إلى اللغة بوصفها موضوعا اجتماعيا خارجيا والتركيز، بدل ذلك، على البحث في المبادئ الذهنية الداخلية التي تتحكم في سلوكنا اللغوي الخارجي. فَبَرَز من جديد الاهتمام بمشكل اكتساب اللغة (الذي صيغ لاحقا في إطار مشكل أفلاطون) وبالمظهر الإبداعي للاستعمال اللغوي وعلاقته بالبحث في طبيعة الذهن وفي خصائصه التي تَسمَح بهذا الإبداع اللامحدود، كما أَبرَزَ ذلك ديكارت من قبل.
وتتميز الترجمة العربية لكتاب ل.د باعتمادها على النسخة المنشورة حديثا، التي تتضمن مقدمة طويلة لماك غِلْفري. تُوضِّح المقدمة مَغَالِق الكتاب وتعيد ربطه بالتطورات الحديثة التي عرفتها اللسانيات التوليدية من خلال تبني مقاربة عقلانية طبيعية، تنظر إلى اللغة بوصفها مادة طبيعية أحيائية، وتستند إلى المنهجية المعتمدة في العلوم الطبيعية لدراسة اللغة والذهن. وتُبرِز المُقدِّمة كذلك الآثار الإيجابية للمقاربة العقلانية على السياسة والتربية، مقارنة بالمقاربة التجريبانية ذات الأساس السلوكي.